صفحات من مذكرات رجل عاقل جداً
... لا تظنوا أنني أشكو من نقص في قواي العقلية. كلا، أرجوكم، لا تقعوا في الخطأ الرهيب الذي وقع فيه الكثيرون من قبلكم، فأنا مكتمل العقل إلى حد يفوق المعتاد. نعم، يفوق المعتاد، وهذه هي مأساتي. فأصحاب العقول العادية لا يلفتون النظر، ولا يكترث بهم أحد، ولا يتناولهم الآخرون سواء بالمديح أو بالذم. وهنا محور مأساتي كما قلت لكم، فأنا أرى أكثر من غيري، وأبعد، وربما بشمولية أوسع وأعمق. وأنا لا أتباهى بهذه الميزة دائماً، وعندما أفعل ذلك لا أبالغ كثيراً. وأقول "لا أتباهى" تجاوزاً، لأنني لا أعتبر ذلك تباهياً كما يفعل البعض، فهو حق مشروع لي، وذكره بين الحين والآخر يُعتبر عرضاً للحقائق فحسب، يمنح صاحبه نشوة بالغة، مثلما يبعث على النشوة أن تختال ببذلة جديدة، أو أن تدعو بعض الأصدقاء لمشاهدة قطعة مفروشات اشتريتها حديثاً. بل إن التباهي بالمقدرة العقلية أحق وأجدر من التباهي بالمقدرة الشرائية، فالأولى موهبة منحها اللّه عز وجل لعدد قليل من الناس، بينما الثانية قوة مكتسبة يمكن لأي شخص أن يصل إليها بشكل أو بآخر.
قد يتساءل بعضكم: إذاً أين المأساة في ذلك؟ هل أصابكم الملل؟ أرجو عفوكم، فربما قد استفضت قليلاً في حديثي، وقد أكون خارجاً عن الموضوع إلى حد ما. ولكن ما أدراكم ما هو الموضوع الذي أرغب في عرضه عليكم؟ على أي حال سأحاول التقليل ما أمكن من الاسترسال في لغو لا طائل من ورائه حتى لا تتهموني بالثرثرة، فأنا لست ثرثاراً بطبعي، ولا أجيد الثرثرة إلا بفرشاتي وألواني، التي إذا أطلقت لها حريتها فإنها ستواصل ثرثرتها من غير انقطاع لساعات طويلة، وربما لأيام متواصلة، فأنا رسام محترف أعيش من بيع لوحاتي. وقد تستغربون أن يوجد رسام محترف يستطيع كسب رزقه من لوحاته، وهذا لا يدهشني، فقد كان كل شخص ألتقي به للمرة الأولى في منزل أحد أصدقائي يستغرب أن يكون هذا عملي. كان التعليق نفسه يتكرر، كشريط تسجيل، بدقة وحرفية كاملتين:
ـ ماذا يعمل الأستاذ؟
ـ رسام!
ـ أقصد ما هو عملك الحقيقي؟
ـ هذا هو عملي الحقيقي.. رسام!
ـ آه.. تقصد أنك رسام هندسي؟
ـ كلا أنا رسام.. أرسم لوحات، وأبيعها، وأعيش بثمنها.
ويستمر الحديث على هذا الشكل، باستنكار مكتوم مهذب من محدثي، وإصرار عنيد مترقب مني. كان الجميع يظهرون ردة الفعل نفسها، وكنت دائماً أبدي الإصرار نفسه. كانوا على استعداد لتقبل أي جواب مني، لو قلت لهم إنني كاتب في دائرة حكومية، أو عامل في ورشة لتصليح السيارات، أو نادل في مطعم، أو حتى مُهرّب. أما أن أكون رساماً محترفاً فهذا شيء غير مألوف، والناس لا يقبلون غير المألوف. حتى أمي الطيبة ـ رحمها اللّه ـ كثيراً ما كانت تطالبني بالبحث عن "وظيفة مجدية" تعطيني كياناً واضحاً بين الناس، وتؤهلني للعثور على زوجة مناسبة. كانت تقول لي:
ـ بماذا سنجيبهم إذا سألوا عن عملك؟ هل سنقول لهم إنك رسام؟ هل سيقتنعون بقدرتك على إعالة ابنتهم من عملك هذا؟
وكانت النتيجة أنني الآن في الستين من عمري.. ولا أزال عزباً.
على أي حال، لم تكن هذه مأساتي الحقيقية، لكن حقيقة المأساة كانت رؤيتي البعيدة للأمور، وتفكيري المغرق في الشمولية. كانت رؤيتي البعيدة تصل في بعدها إلى حد محرج لي أحياناً، ولبعض الأشخاص غالباً. فكثير من الناس لا يرتاحون كثيراً لأصحاب الرؤى البعيدة، لأنهم يبعدونهم عن الاستقرار والراحة والطمأنينة التي تبعثها فيهم الحياة المرحلية الهادئة. وهذا بالذات ما ضخم مأساتي، وأوصلني إلى حد المواجهة المباشرة مع نتائجها. لقد بدأ الأمر بسيطاً، مثل بدايات الأزمات الكبيرة كلها، ونما بسرعة، مثل نموها أيضاً، حتى وصل إلى نقطة الانفجار. كنت أقف في مخزن لبيع الملبوسات أتأمل مجموعة من ربطات العنق، وتدخل أحد عمال المخزن قاطعاً تأملي، وراح يقترح علي ألواناً معينة، لكنني رفضتها بطبيعة الحال لأنها لا تناسب ذوقي، وبخاصة أن اختيار الألوان وتناسبها هو من صميم عملي. وفجأة رأيت في وجهه ابتسامة "خاصة".. وربما وجدتها أنا "خاصة" بسبب رؤيتي البعيدة جداً، لقد تبينت في تلك الابتسامة رأيه الصريح بي، كأنه يملك تلك الموهبة النادرة مثلي أيضاً . كان يراني بعمق.. وكان يسخر مني، ويحاول مسايرتي بصبر نافد، وبترفع مهذب متقن. وشعرت بيدي ترتجفان، وقلبي ينبض بقرع صارخ. وتغلب الانفعال الغاضب في داخلي على الهدوء والدماثة اللتين أغلف شخصيتي بهما عادة. كنت قد وصلت إلى نقطة اللاعودة. وخلال لحظة قصيرة أدركت ذلك، لكن لحظة الإدراك تتأخر دائماً عن الوقت المناسب للسيطرة والكبح... وشعرت بأنني انفصلت إلى شخصين، أحدهما انقلب إلى وحش خرافي مستثار، راح يحطم كل ما تصل إليه يداه، بلا وعي أو تفكير.. بلا موجّه.. بلا هدف.. باستسلام كامل لانفعاله الذي انطلق متحرراً من كل قيد. والشخص الآخر إنسان واعٍ مدرك يقظ، يرى ويسمع كل ما يجري، بأدق تفاصيله، لكنه عاجز تماماً عن التدخل، أو التأثير.. يراقب الأحداث بحياد كما يراقب شريطاً سينمائياً، لا علاقة له بأحداثه، ولا يعرف كيف ستكون نهايته.
لكن هذين الشخصين سرعان ما عادا إلى الالتحام من جديد. وشعرت بالتحامهما فوراً، وكان مفاجئاً وسريعاً مثلما كان الانفصال.. لكنه لم يكن تراجعاً وعودة إلى البداية، مثل تدوير الشريط السينمائي باتجاه معاكس، بل كان هبوطاً من الجهة المقابلة، كالانحدار عن قمة جبل من الجانب المقابل للصعود. وعندما وصلت إلى درجة الوعي الكامل كنت قد بلغت السفح تماماً.